مصلى خالد بن الوليد
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.


مصلى خالد بن الوليد
 
الرئيسيةالموقعأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 من يشتري الجنة

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
نخبة الفكر
مشرف عام
مشرف عام



ذكر
عدد الرسائل : 382
العمر : 33
مكان السكن : غزة
الوظيفة : طالب
المزاج : الرسم
تاريخ التسجيل : 20/11/2009

من يشتري الجنة Empty
مُساهمةموضوع: من يشتري الجنة   من يشتري الجنة I_icon_minitimeالسبت يناير 23, 2010 5:25 am

من يشتري الجنة؟
الدكتور راغب السرجاني
مقدمة


إن الحمد لله, نحمده ونستعينه, ونستغفره ونستهديه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, إنه من يهد الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله .
وبعد...
استوقفتني كلمة جميلة لأبي هريرة – رضي الله عنه - توضح جانبًا من حياة ذي النورين عثمان بن عفان – رضي الله عنه - .. فقد أخرج الحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه (متحدثًا عن عثمان):
"اشترى عثمان الجنة من النبي صلى الله عليه وسلم مرتين..!!"

وقد نسأل أنفسنا: بأي ثمن اشترى عثمان الجنة؟؟!
إن لشراء الجنة طرقًا كثيرة:
• قد تشتري الجنة بركعتين خاشعتين في جوف الليل..
• قد تشتري الحنة بكلمة حق.. تردُّ ظالمًا.. أو تنتصر لمظلوم..
• قد تشتري الجنة بصيام يوم حارٍّ في سبيل الله..
• وقد تشتريها ببسمة ودٍّ صافية في وجه أخيك..
• .. أو مسحة كفٍّ حانية على رأس يتيم....
• ..... ..... ...... ....... ...... ......
حقًّا يا إخواني.. ما أكثر طرق شراء الجنة!
ولكن.. أيَّ هذه الطرق سلك عثمان؟؟
والجواب.. عند أبي هريرة.. يقول:
".. حين حفر بئر رومة! وحين جهز جيش العسرة..!"
في كلتا المرتين – وفي غيرهما – سلك عثمان في شرائه للجنة طريقًا تميَّز به كثيرًا طوال حياته رضي الله عنه.. ذلكم هو طريق:
"الجهاد بالمال.."
ومما لا شكَّ فيه.. أن الجهاد بالمال من أهم طرق شراء الجنة..

الجهاد بالمال عبادة تحتاج إليها كل قضايا المسلمين اليوم.. في فلسطين والعراق وغيرهما... فلا يُعقل أن يكون المسلمون صادقين في تعاطفهم مع إخوانهم المجاهدين في أي أرض إسلامية محتلة.. دون أن يكون لهذا التعاطف صدًى واقعي مادي.. فلا يعرف التاريخ قضايا نُصرت بالتعاطف المجرد، أو بالكلمات المنمقة والشعارات الرنانة..
ولا يُعقل أيضًا أن يتحمل فريق من أمة الإسلام وحده عبء صد العدو وتحرير الأرض بالمال والنفس جميعًا.. بينما يكتفي سائر المسلمين بالمراقبة لما يحدث والتعاطف السلبي – إن وصل الأمر للتعاطف السلبي – دون أن تتعدى المشاركة هذه الشكليات إلى دعم مادي يساهم بفعالية في إخراج المسلمين من أزماتهم!

في هذه الأسطر نحاول - إن شاء الله - إلقاء الضوء على قضية الجهاد بالمال.. كطريق من طرق شراء الجنة.. وكعنصر أساسي من عناصر التضحية في سبيل الله.. لا يُرجى نصر للأمة - لا في فلسطين ولا في غيرها – إلا برسوخه في وجدان المسلمين وسلوكهم..
وقد يلحظ القارئ الكريم في هذه السطور تركيزًا على الواقع الفلسطيني دون غيره من مآسي المسلمين مع أهميتها وإلحاحها جميعًا.. وإنما مردُّ ذلك إلى كون هذه الكلمات ألقيت ضمن سلسلة محاضرات كانت تركز على القضية الفلسطينية في الأساس.. ومعلوم أن سائر مواطن الألم في جسد الأمة تلتقي معًا في احتياجها للجهاد بالمال.
وغني عن البيان أن لدعم قضايا المسلمين مقومات أخرى – إلى جانب الجهاد بالمال – كوضوح الرؤية, وقتل الهزيمة النفسية.. فضلاً عن تثبيت دعائم الإيمان وتقوية الروابط بين المؤمنين..
ونسأل الله أن يعز الإسلام والمسلمين.
لقطات.. قبل البداية..

اللقطة الأولى: رجل يعول أسرة مكونة من عشرة أفراد.. يعمل خارج مدينته.. يخرج كل يوم إلي عمله فإذا بالمعابر مغلقة والمدينة محاصرة... فيعود إلى أهله خالي الوفاض!!

اللقطة الثانية: شيخ يمتلك متجرًا.. لا يستطيع أن يفتحه إلا قليلاً؛ فالحالة الأمنية حرجة جدًا, وأبناء يهود يعيثون في الأرض فسادًا.. وإذا فتحه يومًا لا يشتري منه إلا القليل؛ فالمال قد قل في الأيدي, والفقر قد عمَّ في الأرض...

اللقطة الثالثة: خمس عائلات قُصف منزلهم, وبُدّد متاعهم, وضاعت أملاكهم.. وهم يبحثون عن مأوى وقد ضاقت عليهم الأرض بما رحبت...

اللقطة الرابعة: عائلة مكونة من أب وأم تجاوزا الستين, وتسعة أبناء: أكبرهم في السادسة والعشرين.. أما الأب فلا يعمل, والابن هو من يعول الأسرة.. خرج هذا الابن في مسيرة غاضبة يحمل حجراً يواجه اليهود.. فإذا به يتلقى رصاصة في صدره فيلقي ربه.. وتفقد العائلة عائلها!!
ولقطة خامسة: رجال من أمتنا مجاهدون صابرون.. باعوا أرواحهم لله, واشتروا الجنة.. يريدون سلاحًا أقوي من الحجر.. لكن هذه ظروف ارتفع فيها ثمن السلاح, وقلت مصادره, وقد لا يُشترى إلا من يهودي بأضعاف أضعاف ثمنه, والرجال المجاهدون لا يستطيعونه.. فيتركون السلاح, ويحملون الحجر....

إخواني في الله.. أتظنون هذه اللقطات نادرة؟! أتظنون أننا بذلنا مجهودًا حتى نجدها؟؟! كلا, والله.. هذه لقطات متكررة في كل مدينة.. في كل قرية.. في كل شارع.. بل في كل بيت.. هذه هي فلسطين.. الأرض المقدسة.. وهؤلاء هم إخواننا وآباؤنا وأمهاتنا وأبناؤنا... هذه لقطات تحتاج إلى تفاعل.. تلتقي جميعًا في احتياجها إلى علاج واحد.. هو الجهاد بالمال.
وأنا أعلم أن الحديث عن بذل المال ليس بالحديث المحبب إلى النفوس؛ ذلك أن حب المال والضن به جزء من فطرة هذه النفوس.. وما أسهل الكلام المجرد مهما علت حرارته طالما كان الأمر بعيدًا عن إخراج المال وبذله.
أخي الكريم إذا كنت، تشعر في قلبك بحب شديد للمال, وتعلق كبير به, ورغبة في الاحتفاظ به وتنميته.. فاعلم أن هذا شيء طبيعي تمامًا.. بل إن العجيب ألا تشعر بذلك! هذا التعلق بالمال أمر لا يتعارض بالمرة مع الفطرة السليمة, وأنا أعذرك تماما في هذا الحب للمال؛ لأنه فطرة.. بل إن رسول الله صلي الله عليه وسلم يعذرك! بل إن الله عز وجل ذاته يعذرك!! لا تتعجب, وتعال نسبح سوياً في آيات الله عز وجل.. أرأيت قوله تعالي في وصفه لبني آدم: "وتحبون المال حبًا جمًا" (سورة الفجر ـ آية 20) وحتى إن لم تعرف المعنى الدقيق لكلمة: "جَمًّا.." فإنك ستفهم مقصودها.. هكذا بثقلها: "جَمًّا!!".. يقول ابن كثير في معناها: "جَمًّا" أي: كثيراً فاحشاً.. أي أن الإنسان جُبِلَ علي حب المال حبًا كثيرًا فاحشاً!! هذا وصف الله الخبير بما خلق.. العليم ببواطن النفس, وما تخفي الصدور.. انظر إلي حديث رسول الله صلي الله عليه وسلم الذي يكشف بوضوح أسرار النفس البشرية... إنه رسول عظيم.. طبيب ماهر، صلي الله عليه سلم! يضع إصبعه بسهولة علي موطن الداء, ويصف بلسانه العذب كيف الدواء.. انظر إليه - صلي الله عليه سلم - (في الحديث الذي رواه الإمام أحمد والطبراني رحمهما الله) عن زيد بن أرقم - رضي الله عنه وأرضاه – قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: "لو كان لابن آدم واديان من ذهب وفضة لابتغى إليهما آخر"!! فهكذا جُبل الإنسان علي حب المال ، والسعي وراءه. ثم يقول: "ولا يملأ بطن بن آدم إلا التراب, ويتوب الله علي من تاب".. انظر إلي روعة التشخيص في كلامه (صلي الله عليه سلم)! إن غريزة التملك, وغريزة الكنز, وغريزة السيطرة.. أمور داخلية أصيلة متشعبة في النفس متغلغلة في الوجدان.
وكم تعبنا من علماء صوروا لنا الصالحين كالملائكة ليست لهم نفوس البشر, لا يخطئون ولا يعصون لا يفترون عن عبادة ولا يركنون إلى راحة!.. وليس الأمر كذلك؛ فالإسلام دين يعترف بنقائص النفس البشرية فلا يوجد من لا أخطاء له إلا الله سبحانه وتعالى, ولا يوجد من لا شهوات لديه إلا الله سبحانه وتعالى..
ثم انظر إلى الآية الربانية العجيبة - وكل آيات الله عجيب - والله ما قرأتها إلا ووقفت مبهوراً أمامها, عاجزاً عن تخيل كل أبعادها.. يخاطب رب العزة جل شأنه بني آدم, فيقول: "قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي.. إذن لأمسكتم خشية الإنفاق, وكان الإنسان قتورا" (سورة الإسراء ت آية 100) سبحان الله! هل تتخيل خزائن الرحمة الإلهية؟ إنه لمن المستحيل أن تحيط بها.. إن السموات والأرض وما بينهما لأمر هين بسيط في هذه الخزائن الإلهية.. لو أن ابن آدم يملك هذه الخزائن, وتُرك لهواه وفطرته وطبيعته دون تعديل ولا توجيه ولا تهذيب.. ماذا يفعل؟ سيمسك خشية الإنفاق!! مع أن هذه الخزائن لا تنتهي.. ولن تنتهي!! لكن من فطرته الإمساك.. ".. وكان الإنسان قتوراً" يقول ابن عباس وقتادة (رضي الله عنهما): أي: "بخيلاً مَنُوعًا".
القضية – إذن – عسيرة, والإنفاق صعب, ولا يعجبني أبدا أن يتكلم الواعظ عن الإنفاق وكأنه أمر يسير بسيط.. من لم يفعله كان دليلاً علي فساد فطرته, أو ضياع دينه.. فالأمر عسير شاق بالفعل.. وإن كنت في شك من ذلك فأجبني: أي الشيئين أغلى: نفسك أم مالك؟ إن النفس أغلى دون شك, أما المال فيذهب ويجيء.. تذكَّر هذه المقارنة السابقة, ثم تأمل الآيات القرآنية التي جمع الله فيها بين النفس والمال في أمور الجهاد.. لقد قمت ببحث عن تلك الآيات, فكانت ثماني مرات!! وجدت فيها أمرًا عجيبًا.. لقد قدَّم الله المال على النفس سبع مرات؛ وكأنه أشق وأصعب:
• "الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله.. وأولئك هم الفائزون" (سورة التوبة آية 20)..
• "لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين" (سورة التوبة آية 44)..

الآية الوحيدة التي قدم الله فيها النفس علي المال كانت: "إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم.. بأن لهم الجنة" (سورة التوبة آية 111) إلى آخر الآية.. هنا قدم الله النفس لأنه سبحانه وتعالى الذي يشتري, ويعلم أيهما أغلى: النفس أم المال.. بمعنى أن الإنسان من شدة تمسكه بالمال قد يتحرج في الجهاد به أكثر من تحرجه في الجهاد بنفسه!!
ولهذا الأمر تطبيق كبير في الواقع.. وجدناه في أنفسنا وفي من حولنا.. وجدنا من يقدم كنز ماله على نفسه وراحتها ومتعتها!! قد يخاطر بسمعته من أجل المال, مع أن تلويث السمعة إيذاء للنفس! قد يخاطر بحريته من أجل المال, وتقييد الحرية إيذاء للنفس! قد يخاطر بإراقة ماء الوجه من أجل المال, وإراقة ماء الوجه إيذاء للنفس! بل قد يخاطر بإخوانه وأحبابه.. وحتى بأبنائه من أجل المال؛ يتركهم أعواما وأعواما.. يعمل بعيدا وحيدا حزينا من أجل المال, وترك الأهل والأحباب إيذاء للنفس!
وفوق كل ذلك.. قد يخاطر الرجل بحياته ونفسه من أجل المال, وهذا ليس مجرد إيذاء للنفس.. بل هو تضييع لها!! نشاهده كثيراً.. أرأيتم المرتزقة كيف يقاتلون في المعارك الضارية من أجل المال؟ أرأيتم السائق كيف يقود سيارته وهو يغالب النعاس, فلا يركن إلي راحة معرضًا حياته وحياة من معه للضياع من أجل المال؟ أرأيتم مريض القلب طبيبًا كان أو مهندسًا أو تاجرًا.. كيف لا يكف عن الإرهاق في عمله وهو يعلم أنه يعرض نفسه لموت من أجل المال؟؟..
حب المال – إذن - متغلغل تماما في النفس البشرية, مسيطر تماماً علي جنباتها.. لماذا؟ لماذا يخلق الله جلت قدرته وتعاظمت حكمته الإنسان علي هذه الجبلة؟ لماذا يفطره علي هذه الفطرة؟ ما الحكمة الربانية الجليلة وراء ذلك؟ هذا ما أسميه "فلسفة الابتلاء".. الله سبحانه وتعالي - بقدرته وحكمته - زرع في النفس أمورًا متأصلة فيها, وعظم جدًا حبها فيها.. ولما علم سبحانه وتعالى أنك أصبحت تحبها حبا جما, ولا تطيق لها فراقًا.. هنا طلب منك أن تبذلها في سبيله, وتنفقها من أجله.. حتى تثبت أنك تقدِّم حب الله علي حب شيء متأصل عميق في الفطرة, وهذا دليل الصدق في حب الله.. ولو طلب الله من الخلق بذل شيء بسيط زهيد لنجح في الاختبار الصادقون والكاذبون.. الأمر ليس تمثيلية هزلية.. الاختبار حقيقي وجاد.. بل هو عسير وشاق, ولكونه عسيرًا وشاقًّا فإن المكافأة سخية والجائزة عظيمة.. بل هي أعظم من أن يتخيلها البشر, أو تخطر علي أذهانهم.. إنها الجنة!! لو أدركتم حقيقتها لذبتم اشتياقًا إليها.. لو أدركتم حقيقتها ما طابت لكم حياة علي الأرض.. لو أدركتم حقيقتها ما خاطرتم بها, ولو كان الثمن خزائن الأرض وكنوز الدنيا بأسرها... ترجمة هذا أنك تجد في نفسك حبًّا فطريًّا, وميلاً غريزيًّا للمال, ثم يطلب الله منك أن تنفقه في سبيله.. هنا لا بد أن تعقد مقارنة سريعة حتمية في داخلك: أيهما تحب أكثر: المال..؟ أم الله؟! نعم يا إخوة, هذه هي الحقيقة بكاملها: المال.. أم الله؟؟! كل إنسان سيقول بلسانه: أختار الله على ما سواه.. لكن لابد أن يصدِّق العمل قول اللسان، وإلا فما معني الاختبار؟!
وترجمة هذا أيضا أنك تجد في نفسك حبًّا فطريا للآباء والأبناء والأزواج والعشيرة, ثم يأتي موقف إما أن تُرضي فيه الأحباب, وإما أن ترضي فيه الله.. وعليك أن تعقد مقارنة سريعة: الأحباب..؟ أم الله؟! وتذكَّر أن الإجابة ستكون بالفعل لا بالقول.. الأمر جدُّ خطير, والقضية مصيرية في حياة الإنسان: "قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره, والله لا يهدي القوم الفاسقين"(سورة التوبة آية 24 ) انظر إلي هذه المقارنة.. الجهاد جزء من حب الله ورسوله لكن لماذا يذكر في هذا المقام؟ حتى يلفت النظر إلي قضية: (الفعل لا القول)؛ فلا يكفي أن تقول: أحب الله أكثر.. ولكن لابد من الجهاد في سبيله, وبذل هذه الأشياء الثمانية المذكورة في الآية..
ولكن.. ماذا لو لم تفعل؟ "..فتربصوا حتى يأتي الله بأمره, والله لا يهدي القوم الفاسقين".
أنا أريد أن أحفزكم إلى معاكسة فطرتكم, ومخالفة ميلكم, ومقاومة غريزتكم.. وهو أمر من الصعوبة بمكان - كما ترون - ولأني أعلم أني أضعف من أن أحفزكم بقولي, فقد آثرت أن أحفزكم بقول العليم ببواطنكم.. الخبير بخفايا نفوسكم.. القدير علي تصريف قلوبكم... سأذكر لكم طريقة الله عز وجل في التحفيز على الإنفاق, وهي طريقة عجيبة فريدة معجزة, جديرة بأن تدرس بعمق, وتُفهَمَ بعناية, وهي طريقة تختلف كثيراً عن طريقته سبحانه وتعالى في التحفيز علي أمور الخير الأخرى.. طريقة تشعرك فعلا أن قضية إنفاق المال قضية محورية في مسألة الابتلاء و الاختبار, بل هي قضية محورية في إثبات صدق إيمان العبد.. ولكونه يعلم سبحانه أن إخراج المال شاق وعسير, فقد نوَّع في طريقته, وعلَّم رسوله الكريم صلي الله عليه وسلم وسائل فريدة لتحفيز المسلمين نحو حب الإنفاق, والوقاية من شح النفوس..

كيف تحب الإنفاق في سبيل الله؟

أولاً: والثمن.. الجنة!
جعل الله سبحانه وتعالى الجنة نتيجة مباشرة لإنفاق المال.. فعلى سبيل المثال يقول سبحانه وتعالى: "وسارعوا إلى مغفرة من ربكم, وجنة عرضها السموات والأرض.. أعدت للمتقين؛ الذين ينفقون في السراء والضراء, والكاظمين الغيظ, والعافين عن الناس, والله يحب المحسنين" (سورة آل عمران آية 133) فأول صفة تُذكر للمتقين: أنهم ينفقون في السراء والضراء! يقول ابن كثير رحمه الله: "أي: في الشدة والرخاء, والمنشط والمكره, والصحة والمرض... وفي جميع الأحوال".
ويتضح بالفعل أننا نعاني من قصورٍ شديدٍ في فهم حقيقة الجنة.. فالجنة كلمة كان لها فعل عجيب في نفوس الصحابة؛ فكانوا يستعذبون الآلام في سبيلها, ويستمتعون بالموت من أجلها!!
"الجنة".. كثيراً ما تتردد علي أسماعنا؛ فلا تُحدث في قلوبنا ما كانت تحدثه في قلوب الصحابة, ولابد أن نقف مع أنفسنا لحظات؛ فنسألها: لماذا؟! لقد سمع هذه الآية السابقة ذاتها عمير بن الحمام (رضي الله عنه وأرضاه) في غزوة بدر, فماذا فعلت فيه؟؟
روى الإمام مسلم رحمه الله, عن أنس بن مالك رضي الله عنه, أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال يوم بدر: "قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض" يقول عمير بن الحمام الأنصاري رضي الله عنه: يا رسول الله, جنة عرضها السموات والأرض؟؟! أصابت الكلمة قلبه لا أذنه!!.. قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: "نعم".. قال عمير: بخٍ بخٍ!! فقال رسول الله صلي الله عليه سلم: "ما يحملك علي قولك بخٍ بخٍ؟!".. قال: لا والله يا رسول الله.. إلا رجاء أن أكون من أهلها.. قال: "فإنك من أهلها!" بشرى من الصادق المصدوق صلي الله عليه وسلم.. فأخرج تمرات من قرنه, فجعل يأكل منهن ليتقوى علي المعركة, ثم قال: لإن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه.. إنها لحياة طويلة!! حياة طويلة تفصله عن الجنة!! قال أنس بن مالك: فرمى بما كان معه من التمر ثم قاتلهم حتى قُتل.. موعده الجنة؛ فكيف يصبر علي الحياة؟!!
بل ارجع إلى بيعة العقبة الثانية, وتأمل ذلك الموقف الرائع! فقد روى الإمام أحمد رحمه الله عن جابر رضي الله عنه قال: قلنا يا رسول الله, علام نبايعك؟ قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: "على السمع والطاعة في النشاط والكسل, وعلى النفقة في العسر واليسر, وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وعلى أن تقوموا في الله.. لا تأخذكم في الله لومة لائم, وعلي أن تنصروني إذا قدمت إليكم, وتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم.." شروط قاسية وخطيرة, وعهد غليظ ومؤكد..
هنا.. وقبل أن يبايعوا - كما في رواية ابن إسحاق - يقول العباس بن عبادة بن نضلة (رضي الله عنه وأرضاه) لقومه ينبّههم إلي خطورة البيعة: "هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل؟ قالوا: نعم!.. قال: إنكم تبايعونه علي حرب الأحمر والأسود من الناس؛ فإن كنتم ترون أنكم إذا نُهِكَتْ أموالُكُم مصيبةً, وأشرافُكُم قَتلاً أسلَمْتُمُوه.. فمن الآن؛ فهو والله - إن فعلتم - خزي الدنيا والآخرة, وإن كنتم ترون أنكم وافُون له بما دعوتموه إليه علي نهكة الأموال وقتل الأشراف, فخذوه؛ فهو – والله - خير الدنيا والآخرة.. قالوا: "فإنا نأخذه علي نَهَكَةِ الأموال وقَتْلِ الاشراف!!" قالوا: فما لنا بذلك يا رسول الله.. إن نحن وفينا بذلك؟ (ما هو الثمن لكل هذه التضحيات النادرة, والأحمال الثقيلة, والتبعات العظيمة؟؟) قال صلى الله عليه وسلم: "الجنة..!!" والجنة فقط!! قالوا: ابسط يدك.. فبسط يده, فبايعوه!.. لقد باع الأنصار كل شيء يملكونه من نفس ومال وراحة وأمن وأهل وديار... باعوا كل شيء, واشتروا شيئًا واحدًا: "الجنة.." ونزلت الكلمة بردًا وسلامًا على الأنصار, فاطمأنت القلوب, وخشعت الأبصار, وسكنت الجوارح..

وكانت الهجرة بعد هذه البيعة الغالية بقليل.. وكلنا يعلم كم ضحى المهاجرون ليلحقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم.. ولكني – هنا – أذكركم فقط بموقف صهيب رضي الله عنه أثناء هجرته.. أورد ابن عبد البر القصة عن سعيد بن المسيب رحمه الله قال: خرج صهيب مهاجرًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.. فاتبعه نفر من المشركين, فانتثر ما في كنانته (أي أخرج ما في كنانته من سهام) وقال لهم: يا معشر قريش, قد تعلمون أني من أرماكم (أحسنكم رميًا بالسهام), ووالله لا تصلون إلي حتى أرميكم بكل سهم معي, ثم أضربكم بسيفي ما بقي منه في يدي شيء.. فإن كنتم تريدون مالي دللتكم عليه.. قالوا: فدلنا على مالك ونخلي عنك. فتعاهدوا على ذلك, فدلهَّم, ولحق برسول الله صلى الله عليه وسلم.. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ربح البيع أبا يحيى!!". فأنزل الله تعالى فيه: "ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله.. والله رءوف بالعباد"..
أرأيتم؟! "ربح البيع..!" وكيف لا يربح وقد اشترى الجنة (سلعة الله الغالية) بما كان يملك من مال؟!.. والجنة باقية (خالدين فيها..), والمال عَرَض زائل!!
كيف لا يربح وقد قال الله تعالى: "إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم.. بأن لهم (الجنة!)... ثم يقول بعد قليل في نفس الآية: "فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به.. وذلك هو الفوز العظيم!!"

وختامًا..

أخي وحبيبي.. ورفيقي في طريق الله..
يا من يباهي بك الله ملائكته.. لعملك وقلبك.. لا لصورتك وجسمك..
يا من رضيت بالله رباً, وبالإسلام ديناً, وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً..
يا من تثق في وعد الله.. ووعد الله لا يتبدل ولا يتغير..
ألا تشتاق إلى جهاد وشهادة؟!
إن كنت لا تستطيعه.. ألا تريد أن تجهز غازيا أو تخلفه في أهله؟؟
ألا تشتاق إلى أن تكفل يتيمًا فترسم على وجهه بسمة, وتُحشر إلى جوار رسول الله صلى الله عليه سلم قريبًا منه قرب السبابة من الوسطى؟؟
ألا تشتاق إلى جنة عرضها السموات والأرض.. أُعدت للمتقين.. الذين ينفقون في السراء والضراء..؟؟
أخي وحبيبي.. إن كنت غنياً فهذا شكر النعمة, وإن كنت فقيراً فرُبَّ درهم سبق ألف درهم.. واعلم يا أخي أن الله قسَّم الأعمال بين عباده, وكان نصيبك النصيب الأيسر؛ فعلى إخوانك في فلسطين أن يدفعوا أرواحهم, وعليك أنت في بيتك الآمن أن تدفع مالك! فارض بما قسم الله لك من العمل يرفع عنك من البلاء ما لا تطيق..
أخي وحبيبي.. كم هو قصير هذا العمر, وأخشى عليك من ليلة ليس لها صباح.. يجيء فيها الموت بغتة كعادته.. فتقول: "رب لولا أخرتني إلى أجل قريب؛ فأَصَّدَّقَ وأكُن من الصالحين" (سورة المؤمنون آية 100).. أخشى عليك من لحظة تقول فيها: "رب ارجعون.. لعلي أعمل صالحا فيما تركت".. ها أنت وكأنك رجعت.. فاعمل ليوم لا رجعة فيه..
أخي وحبيبي ورفيقي في طريق الله.. أتركك الآن.. وموعدنا الجنة إن شاء الله..
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
من يشتري الجنة
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
مصلى خالد بن الوليد :: المنتديات الاسلامية :: المنتدى الشرعي-
انتقل الى: